الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي توجيه الأمر إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا أن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك.وفاعل {نَدْعُواْ} وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه: {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عام لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولغيره وليس مخصوصًا بالصديق رضي الله تعالى عنه بناء على أنه سبب النزول.وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلى الله عليه وسلم.والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك.والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال: رجع على عقبه إذا انثى راجعًا.ويكنى به كما قيل عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال؛ وقيل: الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل، شركًا أو غيره.والجمهور على الأول.والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب كما قال شيخ الإسلام لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر.وإيثار {نُرَدُّ} على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحًا بمخالفة المضلين وقطعًا لاطماعهم الفارغة وإيذانًا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره.{بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل.والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال: بعد إذ اهتدينا كأنه قيل: أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه.وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر ولا أن جملة {نُرَدُّ} في موضع الحال من ضمير {ندعو} أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء. اهـ.
.قال ابن عاشور: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين، فقد كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة.كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لَقي من عُمر بن الخطاب.وقد روي أنّ عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلاّ فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة.وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يُرْضُونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب.والاستفهام إنكار وتأييس، وجيء بنون المتكلّم ومعه غيره لأنّ الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم.و{من دون الله} متعلّق بـ {ندعوا}.والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنامُ، فإنَّها حجارة مشاهد عدمُ نفعها وعجزُها عن الضرّ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنَّهم خلعوا عبادتها وسفَّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها، فلمَّا جعلوا عدَم النفع ولا الضرّ علَّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه.وقوله: {ونُردّ على أعقابنا} عطف على {ندعوا} فهو داخل في حيّز الإنكار.والردّ: الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه، كقوله تعالى: {رُدّوها عليّ} [ص: 33].والأعقاب جمع عَقِب وهي مؤخّر القدم.وعقب كلّ شيء طَرفه وآخره ويقال: رجع على عَقِبه وعلى عَقِبَيْه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنَّه كان جاعلًا إيَّاه وراءه فرَجَع.وحرف (على) فيه للاستعلاء، أي رجع على طريق جهة عقبه، كما يقال: رجع وراءه، ثم استعمل تمثيلًا شائعًا في التَّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبُها ثم عاد إليها وتلبّس بها، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنَّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القُدُمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيَه؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه.وفي الحديث: «اللهمّ أمْض لأصحابي هِجْرتهم ولا تَرُدّهم على أعقابهم» فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلَم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له.وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يُقال: ونرجعُ إلى الكفر بعد الإيمان.وقد أضيف (بعد) إلى {إذْ هدانا} وكلاهما اسم زمان، فإنّ (بعد) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله: {ومن بعد صلاة العشاء} [النور: 58] و(إذا) يدلّ على زمان معرّف بشيء، ف (إذا) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولًا فيه.والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه، ونظيره: {ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} في سورة [آل عمران: 8].ارتقى في تمثيل حالهم لو فُرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ، بقوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض}، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسُوسينَ. اهـ..قال الفخر: اختلفوا في اشتقاق {استهوته} على قولين:القول الأول: أنه مشتق من الهوى في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض، فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} [الحج: 31] ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة.والقول الثاني: أنه مشتق من اتباع الهوى والميل، فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة، والقول الأول أولى، لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف.الصفة الثانية: قوله: {حَيْرَانَ} قال الأصمعي: يقال حار يحار حيرة وحيرًا، وزاد الفراء حيرانًا وحيرورة، ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه.ومنه يقال: الماء يتحير في الغيم أي يتردد، وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء.واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن، وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه، لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يوجب كمال التردد والتحير، وأيضًا فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل، فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالًا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {كالذي} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف.{استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ} أي استغوته وزيّنت له هواه ودعته إليه.يقال: هَوَى يَهْوِي إلى الشيء أسرع إليه.وقال الزجاج: هو من هَوِيَ يَهْوَى، مِن هَوَى النفس؛ أي زَيّن له الشيطان هواه.وقراءة الجماعة {استهوته} أي هوت به، على تأنيث الجماعة.وقرأ حمزة {استهواه الشياطين} على تذكير الجمع.وروي عن ابن مسعود {استهواه الشيطان}، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبَيّ.ومعنى {ائتنا} تابعنا.وفي قراءة عبد الله أيضًا {يَدعُونه إلى الهُدَى بَيِّنًا}.وعن الحسن أيضًا {استهوته الشياطون}.{حَيْرَان} نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى.والحَيْرَانُ هو الذي لا يهتدِي لجهة أمره.وقد حار يَحار حَيْرًا وحَيْرَة وحَيْرُورة، أي تردّد.وبه سُمِّي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرًا، والجمع حُورَان.والحائر الموضع الذي يتحير فيه الماء.قال الشاعر:قال ابن عباس: أي مَثَل عابد الصنم مثل من دعاه الغُول فيتبعه فيُصبح وقد ألقته في مَضَلّة ومَهْلَكة؛ فهو حائر في تلك المَهامِة.وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون؛ وهو معنى قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} فيأبى.قال أبو عمر: أمُّه أمُّ رُومانَ بنت الحارث بن غَنْم الكنانية؛ فهو شقيق عائشة.وشهِد عبد الرحمن بن أبي بكر بَدْرًا وأُحُدًا مع قومه وهو كافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «مَتِّعْنِي بنفسك».ثم أسلم وحسُن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هُدْنَة الحُدَيْبِيَة.هذا قول أهل السِّيَر.قالوا: كان اسمه عبدَ الكعبة فغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمَه عبد الرحمن، وكان أسنَّ ولد أبي بكر.ويقال: إنه لم يدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعةٌ وِلاءً: أبٌ وبنوه إلا أبا قُحافة وابنَه أبا بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابنَه أبا عتيق محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم. اهـ. .قال الألوسي: وقوله سبحانه: {الله كالذى استهوته الشياطين} نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردًا مثل رد الذي استهوته إلخ.وقدر الطبرسي أندعو دعاء مثل دعاء الذي إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إنه في موضع الحال من فاعل {نُرَدُّ} أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك.واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك: جاء زيد راكبًا أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب.وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فلا يلزم ذلك، ولا يخفى أنه في حيز المنع.والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامه والقفار.والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمه وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة.وليس هذا مبنيًا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين.وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال: هوى يهوي هويًا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل.والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة.ونظير ذلك قوله تعالى: {مَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} [الحج: 31] وفيه بعد وإن قال الإمام: إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذى المعنى، وجوز أبو البقاء في الذي أن يكون مفردًا أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنسًا. والمراد الذين.قرأ حمزة {استهواه} بألف ممالة مع التذكير.{ضَلَلْنَا في الأرض} أي جنسها.والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنًا في الأرض.وكذا قوله سبحانه: {حَيْرَانَ} حال منه أيضًا على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من {الذي} أو من المستكن في الظرف.وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالًا من {حَيْرَانَ} وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائهًا ضالًا عن الجادة لا يدري ما يصنع. اهـ..قال ابن عاشور: الكاف في موضع الحال من الضمير في {نُردّ على أعقابنا}، أي حال كوننا مشْبهينَ للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في {نردّ على أعقابنا} من معنى التَمثيل بالمرتدّ على أعقابه.والاستهواء استفعال، أي طلب هَوى المرء ومحبّتِه، أي استجلاب هَوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلِب.وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية.فقال: استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ.ووقع في الكشاف أنَّه استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمَّة اللغة ولِم يذكره هو في الأساس مع كونه ذكر {كالذي استهوته الشياطين} ولم ينبِّه على هذا مَن جاء بعده.والعرب يقولون: استهوته الشياطين، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيَّرتْه كما تريد.وذلك قريب من قولهم: سَحَرتْه، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجنْ، وتسمَّى السعالي أيضًا، واحدتُها سَعْلاة، ويقولون أيضًا: استهامته الجنّ إذا طلبت هُيامه بطاعتها.وقوله: {في الأرض} متعلّق بـ {استهوته}، لأنَّه يتضمَّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض.وذلك لأنّ الحالة التي تتوهَّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبًا رأسه لا ينتصح لأحد، كما وقع لكثير من مجانينهم ومَن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم.ومن أشهرهم عَمْرو بن عَدي الأيادي اللخمي ابن أخت جُذيمة بن مالك ملك الحيرة.وجوّز بعضهم أن يكون {في الأرض} متعلِّقًا بـ {حَيْران}، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.و{حَيْرانَ} حال من {الذي استهوتْه}، وهو وصف من الحَيْرة، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل.يقال: حارَ يحَار إذ تاهَ في الأرض فلم يعلم الطريق.وتطلق مجازًا على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه، وانتصب {حيران} على الحال من {الذي}. اهـ.
|